و اعتصموا بحبل الله جميعا
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و آله الطاهرين.
قال تعالى في محكم كتاب:
«و اعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا، و اذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخوانا، و كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون، و لتكن منكم أمة يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و أولئك هم المفلحون، و لا تكون كالذين تفرقوا و اختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات و أولئك لهم عذاب عظيم». (1)
هذه الآيات الشريفة و آيات أخرى ليست قليلة وردت في الذكر الحكيم تدعو المسلمين إلى الالتفاف حول دين الله سبحانه و تعالى و الاعتصام بحبله و التمسك بالكتاب الكريم و ما جاء به الرسول الأعظم (ص)، كما تأمرهم بنبذ الفرقة و الاختلاف و الحفاظ على الوحدة و الائتلاف.
«إن امتكم أمة واحدة و أنا ربكم فاعبدون» (2)
«و أطيعوا الله و رسوله و لا تنازعوا فتفشلوا و نذهب ريحكم و اصبروا إن الله مع الصابرين» (3) .
و على هذا النهج جرت السنة النبوية الشريفة و سنة الأئمة المعصومين(ع).
فقد ورد عن رسول الله(ص) أنه قال:
«مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى» (4) .
و قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا». (5)
و قال: «من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه». (6)
و هذا النص الاخير روي من طرق الشيعة الامامية أيضا بهذا الشكل:
«من فارق جماعة المسلمين فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه» قيل يا رسول الله، و ما جماعة المسلمين؟ قال: «جماعة أهل الحق و إن قلوا. (7)
من هذه النصوص يتبين ان الاسلام دين الوحدة، دين الالفة و المودة، دين الاجتماع و التكاتف، الاسلام دين أساسه كلمة التوحيد، و الإخلاص و الناس كلهم عباد الله، «إن اكرمكم عندالله أتقاكم». (8)
العبادات الاسلامية و الأحكام الشرعية تجسد هذا المنهج القويم و تكرس هذا الاتجاه.
فصلاة الجماعة مثلا، عبادة يومية جعلت منها الشريعة المقدسة مظهرا من مظاهر الاتحاد و التآلف، فهم يجتمعون عدة مرات في اليوم الواحد في تظاهرة وحدوية تنظم صفوفهم خلف إمام واحد، في اتجاه واحد، و قلوبهم نحو هدف واحد، هو طاعة الله و امتثال أمره و أداء فرضه .
و صلاة الجمعة، مظهر آخر من مظاهر الاتحاد و الاجتماع، و هي دورة تعبوية اسلامية، سياسية و عبادية ضمن المنهج الاسلامي.
و الأعياد الاسلامية العظيمة أيضا تظاهرة اتحاد و تألف بين المسلمين، فعن الامام الرضا عليه السلام و قد سئل عن علة جعل يوم الفطر عيدا، قال: «لأن يكون للمسلمين مجمع يجتمعون فيه و يبرزون إلى الله عز و جل فيحمدونه على ما من عليهم، فيكون يوم عيد و يوم اجتماع و يوم فطر و يوم زكاة و يوم رغبة و يوم تضرع». (9)
و لعل حج بيت الله الحرام من أبرز المظاهر العبادية التي يتجلى من خلالها الجانب الوحدوي، إذ أنه أعظم مؤتمر يجتمع إليه المسلمون من جميع أقطار الدنيا التلبية لنداء ربهم و ليؤدوا مناسكهم في عبادة جماعية تضم المسلمين على اختلاف لغاتهم و ألوانهم و أجناسهم و أحوالهم، في قلوب خاشعة خاضعة لم يوحدها سوى الاسلام و لم يجمع بينها إلا التقوى.
هذه العبادات اليومية و الموسمية التي شرعها الدين الاسلامي و غيرها من العبادات و الأحكام الاخرى تكشف عن اهتمام الشريعة المقدسة ببناء مجتمع متحد متعاون متكافل كالجسد الواحد و كالبنيان المرصوص. و لقد أكد الرسول صلى الله عليه و آله علي أهمية الألف و الاتحاد منذ اللحظات الأولى لدخول المدينة المنورة، و نفذ ذلك عمليا في حركة التآخي الفريدة فآخى بين المهاجرين و الأنصار و بين الأنصار أنفسهم و المهاجرين أنفسهم، فقد كان المجتمع الاسلامي آنذاك في مستهل تشكيله و في بداية نشوئه، و هو مقبل على امتحان عسير تفرضه طبيعة الدين الجديد و الوضع السياسي المحيط بالمدينة المنورة، فهو أحوج ما يكون إلى الاتحاد و رص الصفوف و إزالة جميع عوامل الاختلاف و التفرق ليتمكن ـ على ضعف امكاناته ـ من الصمود في وجه الأعاصير التي توشك أن تعصف من مختلف الاتجاهات.
لقد قام صلى الله عليه و آله بالمؤاخاة بين المسلمين ليجعل من الاسلام محور وحدتهم و أساس ارتباطهم و قطب حركتهم، و ليجعل هذه القرابة الجديدة أقوى من قرابة الرحم و النسب و ليجعل هذه الرابطة أوثق من رابطة القبيلة و الوطن. لقد قضى بذلك صلى الله عليه و آله على العصبيات الجاهلية و النزعات المختلفة التي كانت تمزق المجتمع آنذاك و أحل محلها حالة من الألفة و الإخوة لم يذق ذلك المجتمع طعمه من قبل، فصنع من ذلك المجتمع الناشىء الصغير قوة كبرى دافعت عن الاسلام واحتضنته بقوة و أفشلت كل المؤامرات التي استهدفت القضاء عليه، ثم حملت رايته المنتصرة لترفعها فوق ربوع الجزيرة العربية في مدة يسيرة ثم منها إلى أقطار المعمورة. إن من فضول القول الحديث عن إهتمام الاسلام بالاتحاد و الالفة، و رفضه لعوامل التشتت و النزاع.
عوامل الشتت و الافتراق:
قد يتصور البعض أن الحديث عن «الوحدة الاسلامية» في هذا العصر فيه نوع من المثالية و ضرب من الخيال، نظرا لما آل إليه المسلمون من التفوق و الاختلاف حتى أصبحوا طرائق قددا، الأمر الذي يجعل من لم الشمل و اعادة اللحمة قضية عسيرة جدا.
و هذا بالحقيقة يدفع الكثير إلى اليأس و الاستسلام للواقع المر، و هو لا يزيد الشقة إلا عمقا و الجرح إلا اتساعا.
و في المقابل هناك العديد من المخصلين الذين نذروا أنفسهم للتقريب بين المذاهب الاسلامية و سعوا جهدهم لردم الهوة المصطنعة و تضميد الجراح. هؤلاء انطلقوا في جهودهم تلك على أساس من الاحساس بالمسؤولية و الشعور بالتكليف الشرعي و الحرص على وحدة الصف.
و كل سعي في هذا المجال إذا أريد له النجاح فلا بد أن يقوم أولا على دراسة وافية لعوامل التفرقة التي أدت بالمسلمين إلى ما هم عليه، و بعد ذلك التخطيط لازالة تلك العوامل و تحصين المجتمع الاسلامي ضدها، و استبدالها بدواعي الاتحاد و الالفة، و يمكن تقسيم تلك العوامل إلى قسمين:
القسم الأول: عوامل داخلية.
و القسم الثاني: عوامل خارجية.
أما العوامل الداخلية: فتتمثل في النوازع البشرية المختلفة من قبيل حب الرئاسة و التسلط و حب الذات و لو على حساب حقوق الآخرين مما يدفع الى الظلم و الجور، و الاقبال على الدنيا بما يتجاوز الحدود الطبيعية، و هذه الأمور هي الأساس الذي يتولد عنه النزاع و الضغائن و الاحقاد، و ربما جرت إلى التعدي و الطغيان و سفك الدماء و سحق الحريات، و ما إلى ذلك من التجاوزات التي تفتت المجتمع و تشتت الأمة، كما أن الجهل يشكل عاملا مهما في بث الفرقة .
و هذا النوع من العوامل لايخلو منه مجتمع بشري منذ بداية الخليفة و حتى الآن، و لعل من أهم أهداف الدين الاسلامي بل كافة الأديان السماوية معالجة هذه النزعات البشرية و القضاء عليها و ذلك من خلال البرامج التربوية و القوانين الشرعية.
و نظام العبادات في الاسلام يهدف إلى هذه النقطة عندما يربي الانسان على العبودية لله و الطاعة المطلقة و يحرره من قيود الشهوات الحيوانية و النوازع النفسانية.
كما أن الدراسات الأخلاقية تتكفل بمعالجة هذا الجانب، و وظيفة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في حقيقتها تشكل حالة من التكافل الاجتماعي للوقاية من تلك الأمراض، و نظام الحدود و التعزيرات أيضا شرع لذلك الغرض.
و أما القسم الثاني: فهو عبارة عن العوامل الخارجية، و نقصد بها العوامل الدخيلة على المجتمع الاسلامي، و التي تستهدف تجزئة هذا المجتمع، و تحطيم الاواصر، و بث الفرقة، و إثارة النزاعات و الحروب لاضعاف المجتمع و السيطرة عليه، أو تشويه الاسلام و الحيلولة دون انتشاره و اتساع رقعته.
و قد يستفيد المخططون لهذه الأهداف من القسم الأول من العوامل و يعملون على تنميتها و استغلالها كأدوات فعالة لخدمة مآربهم، ونحن إنما فصلناها لأنها في نفسها تشكل أحيانا عوامل مستقلة و ان كانت أيضا بالنسبة للقسم الثاني تشكل أرضية ملائمة لها و أدوات فعالة لخدمتها.
و بالطبع فإن أعداء الاسلام الذين يتربصون بنا الدوائر قد يستفيدون من الكثير من نقاط الضعف و ينفذون إلى مخططاتهم من خلال العديد من الثغرات، و يستخدمون من الأدوات ما يتيسر لهم، و قد تختلف هذه الأدوات من زمان إلى زمان و من مكان إلى آخر، و قد تصبغ الأدوات أحيانا بصبغة دينية، و أخرى بصبغة اقتصادية، و ربما استخدمت وسائل محلية تخفى على الكثيرين و لا يدرك حقيقتها إلا ذو البصائر.
و أشد الأدوات فتكا تلك التي تعمل بوحي الأعداء دون أن تدري، بل ربما تصورت نفسها تخدم الدين و تحرص على مصالح المسلمين.
دور الخلافات الفكرية و المذهبية:
هنا رؤية مفادها أن الخلافات الفكرية و المذهبية على مستوى المعتقد و على مستوى المنهج الفقهي و الأصولي تشكل عاملا أساسيا من عوامل التشتت و الافتراق، و سدا منيعا أمام كل مساعي الوحدة و التقارب بين المذاهب الاسلامية و لأجل هذا كرس أصحاب هذه الرؤية كل جهودهم فى مجال معالجة هذه الخلافات فراحوا يبحثون تارة عن نقاط الالتقاء و أخرى عن الطرق التي ربما توصل إلى تقريب وجهات النظر في مسائل الخلاف. و لعل البعض قد حقق نجاحا ملموسا في هذا المضمار إلا أنه بقي محصورا في حدود دائرة ضيقة، و لم تحل المشكل جذريا.
و الحقيقة أن الاختلافات الفكرية لا تشكل عاملا من عوامل الافتراق بقدر ما هي أداة تستخدم في اثارة النزاعات، و قد استخدمت بالفعل و جعلت أساس لذلك.
إن الخلافات الفكرية بمنزلة إختلاف اللغة و اختلاف القومية و أمثال ذلك، ليست في واقعها من عوامل الافتراق و النزاع، و لكنها تستغل من قبل دعاة التفرقة و التجزئة و تشكل أرضية خصبة لنشاطهم.
الخلافات الفكرية قد تكون في نفسها دليل حياة و دليل قوة شرط أن تكون وليدة حالة طبيعية و أن تبقى في حدود الدائرة الفكرية، فتعدد الآراء و النظريات من شأنه أن يثري الحركة الفكرية و يدفعها نحو التكامل و الرشد. نعم هناك حالات من الخلاف الفكري تنشأ من التقليد الأعمى و التعصب البغيض، فتولد حالة القصور الفكري و الجمود، و هذه بلا شك من الأمراض التي تتطلب العلاج.
في الساحة الاسلامية هناك نوعان من الخلاف الفكري:
النوع الأول: الخلاف بين المسلمين و غيرهم ممن لا يعتنقون الدين الاسلامي من الملاحدة أو أهل الكتاب، و لا شك أن هذه الدائرة من الخلاف ليست محل كلامنا، و لكنها يمكن أن تؤخذ نموذجا لدراسة المنهج الذي رسمه الاسلام لنا في كيفية التعامل مع الخلافات الكفرية بشكل عام، و هذا النوع بشكل خاص.
ففي دائرة الخلاف مع الملحدين، لا يقطع الاسلام حبل الوصال معهم و انما هو يخاطب عقولهم باعتبار أنه القدر المشترك بين كل البشر، و يتابع منهج الحوار الفكري ما دام ذلك ممكنا . إذ أن هدف الاسلام الاساسي هو الوصول بالناس ـ كل الناس ـ إلى الحق و الارتباط بالحق ليس أكثر.
«ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هى أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله و هو أعلم بالمهتدين» (10) .
و لم ينكر الاسلام على الناس الشك في شىء إذا كان ذلك في طريق طلب الحقيقة و في سبيل الوصول الى اليقين و انما انكر على المشككين الذين يرفضون الحقيقة دون حجة و لا بينة، و انما يدفعهم إلى ذلك حالة العناد و التقليد الاعمى.
هذا هو المنهج القرآني في طرح الحقيقة و الدعوة إليها فهو تارة يدعوهم للتدبر في الآيات الكونية و أخرى يطلب منهم التأمل بأنفسهم و اعمال عقولهم و ثالثة ينقض عليهم دعاواهم، و هكذا يرسم منهج الحوار مع الفكر و مخاطبة العقول.
و لا يلجأ إلى القوة و الحسم إلا إذا مارسوا الطغيان و لجوا في العناد و تنكروا للعقل و الدليل، و هو مع ذلك يترك الباب مفتوحا إذا ما استجابوا لنداء العقل و تخلوا عن العناد و رضوا بالحق.
و من النوع الأول أيضا الخلاف مع أهل الكتاب، لكن المسألة هنا تختلف من حيث سعة دائرة المشتركات، فهم يؤمنون بالله و يصدقون بالمعاد و بوجود الرسالات السماوية ـ بالجملة ـ، فالحوار معهم كان مبنيا على أساس المسلمات المشتركة.
«و لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا منهم، و قولوا آمنا بالذي أنزل إلينا و أنزل إليكم و إلهنا و إلهكم واحد و نحن له مسلمون» (11) .
«قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ألا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون» . (12)
و كذلك هنا لا يخرج عن دائرة الحوار الفكري و مخاطبة العقول و الاحتجاج بالمسلمات عندهم و إقامة الدليل و البرهان، إلا إذا أعرضوا عن هذا الاسلوب و أخذتهم العصبية و لجوا في العناد، و هو مع ذلك يتدرج معهم في المقارعة و النزاع.
«فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم و نسآءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين». (13)
فاذا تجاوزوا ذلك ـ و قد تجاوزوه بالفعل، و أخذوا يتآمرون على الاسلام و المسلمين ـ كان لا بد من الانتقال إلى ساحة الصراع العسكري و استعمال القوة.
النوع الثاني: الخلاف الفكري بين المسلمين أنفسهم.
هناك أصول مشتركة بين جميع المسلمين و هي الايمان بالله و توحيده و الايمان بنبوة الرسول محمد صلى الله عليه و آله و بالقرآن الكريم كتاب الله المنزل و بالمعاد «يوم القيامة» .
و لا يشك أحد من المسلمين بأن القرآن الكريم و السنة النبوية الشريفة هما المصدران الرئيسيان لمعرفة أحكام الشريعة و المعارف الاسلامية، و مع ذلك فهناك الكثير من الخلافات ترجع كلها إلى كيفية فهم الكتاب و السنة احيانا، و إلى الطرق التي تثبت بها السنة النبوية الشريفة أحيانا أخرى.
فهي خلافات لا تمس الأصول الأساسية للشريعة و إنما هي خلافات فكرية داخل إطار تلك الأصول تمليها طبيعة تعدد الأنظار و الآراء و تفاوت درجات الإدراك و الفهم. و هو بالتالي أمر لا بد منه في الجملة.
و من المسلم أن هناك بعض الظروف التي قد تلعب دورا في تعميق هذه الخلافات و تطويرها، فتخلق الأرضية المناسبة لاستغلالها من قبل اعداء الاسلام، و هذه الظروف كما يلي:
1 ـ التأثر بالأجواء الاجتماعية الموروثة أو الدخيلة على المجتمع الاسلامي و التي تطبع الفكر بطابع خاص و تجعله أسيرا لنهج فكري معين يقوده إلى الوقوع في انحرافات أو سلوك اتجاه قد لا يصيب الحقيقة.
2 ـ التأثر بذوي النفوذ السياسي أو المكانة الاجتماعية الذي يجر عادة إلى اتباع منهجهم الفكري و الابتعاد عن المناهج الاخرى، و بالتالي يتحول ذلك إلى مذهب خاص له مؤيدوه و المدافعون عنه.
3 ـ الميول و المصالح السياسية و الاقتصادية التي لها تأثيرها الكبير في تبني نوع خاص من الرؤية بما يتناسب مع تلك الميول. و قد تدفع أحيانا إلى تشجيع الوضاعين و الدساسين الذين يتاجرون بالدين لمآرب شخصية، فيقومون بوضع الحديث، أو اختلاق تفسير و تأويل خاص يخدم تلك المصالح، فيؤدي إلى اختلاط الحق على الناس، و ينشأ عنه تعدد في النظرات و الآراء و ربما أدى إلى ولادة فرقة أو مذهب.
4 ـ من أسباب تعميق الخلاف، الحركات السرية للمنافقين و اليهود الذين يهدفون إلى زعزعة أركان الدين الاسلامي و تشويه حقائقه، و ذلك عبر أساليب كثيرة، كإثارة الشبهات و التشكيكات، و ادخال بعض الافكار الغريبة بطريق و آخر، و ربما مارسوا عملية الوضع أيضا بالاتجاه الذي يخدم أهواءهم. و هذا النمط من العوامل أوجد هذه الكمية من الاسرائيليات التي ابتلي بها الحديث عندنا.
5 ـ و الأهم من كل هذه الأمور، الدور الذي يلعبه أعداء الاسلام، باستغلال هذه العوامل و الاستفادة منها في اثارة النزاعات و بذر الشقاق، و بث العداوات. و قد شهد القرن الأخير تصعيدا في هذا النشاط و حقق المستعمرون أغراضهم و مآربهم، عندما عمدوا إلى تقسيم العالم الاسلامي على أساس القوميات و اختلاف اللغات و الأقاليم، و أثيرت الحروب بين المسلمين لأغراض لا تخدم إلا الاستعمار، و قد هزم المسلمون يوم تناسوا المشتركات بينهم و المصالح العامة، و تخلوا عن أسس وحدتهم و حبل اعتصامهم الذي يجمعهم و يؤلف بينهم و قدموا الانتساب إلى القومية و إلى الاقليم و إلى اللغة على الانتساب إلى الدين، على خلاف تعاليم الكتاب العزيز و سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه و آله.
و لقد استطاع المستعمرون أن يصنعوا من الوطن الاسلامي الكبير كيانات صغيرة متعددة فاقدة لمقومات القوة و الحياة و الاستمرار، و حرصوا أشد الحرص على إضعافها و خلق المعضلات السياسية و الاقتصادية لها لكي تبقى أسيرة الحاجة و فريسة الصراعات، ليتسنى لهم التحكم بمصائر شعوبها و السيطرة على ثرواتها و مقدراتها.
العالم الاسلامي اليوم و بفعل أولئك المستعمرين بات يشكل بؤرة الفقر و الفاقة و ميدان الصراعات المعقدة، بينما تدار عجلة الصناعة في الغرب بوقوده و زيته، و تقوم الماكنة الاقتصادية على خيراته و كنوزه المودعة فيه.
لم يعد أولئك المستعمرين اليوم بحاجة لارسال قواتهم و المخاطرة بجيوشهم لقمع حركات التحرر، و تأديب من يفكر بالتمرد، أو يهدد مصالحهم الخاصة، فهم يمسكون بقياد الجيوش في أكثر البلاد الاسلامية، و يتحكمون بالدفة السياسية فيها، فعملاؤهم يكفونهم المؤونة و يؤدون المطلوب على أفضل وجه.
و لسنا بحاجة إلى شواهد لاثبات ذلك و في كل يوم لنا شاهد، و كل لحظة لنا دليل.
عوامل أم أدوات:
إن تعدد الآراء و اختلاف وجهات النظر بين العلماء و المفكرين لا تشكل حالة مرضية و انما هي دليل حياة، دليل قوة حركة العقل و الفكر، و المؤسف أن الكثير من الناس يعتقد أن اختلاف وجهات النظر هو السبب الكامن وراء الفرقة و التشتت فتراهم يشعرون بالجزع و الأسى إذا اختلف الفقهاء في الفتوى مثلا، أو تباينت الآراء في مسألة معينة، و قد غفلوا عن حقيقة مفادها أن الغاء مثل هذه الاختلافات لا يتم إلا اذا عطل الكفر عند البشر و منع العقل من ممارسة نشاطه.
نعم.. إن اختلاف وجهات النظر ثغرة قد يستغلها الأعداء و زارعوا الفتن، فيتخذون منها ذريعة لبث الفرقة و النزاع و الخصومة. و لأجل هذا يفترض بالمسلمين أن ينتبهوا الى هذه الحقيقة و يتعاملون مع الاختلافات الفكرية على أنها ظاهرة صحية، و أنها حالة طبيعية، و من ثم يحصروها في إطار البحث العلمي، و لا يسمحوا لها بالتعدي و التجاوز لتصبح أدوات فتك و أسلحة دمار.
و لعل أوضح دليل على ما نقول، ما نجده من اختلاف الآراء بين علماء الفريق الواحد الذي قد يبلغ مقدارا لا يقل عن اختلاف الاراء بين الفرق المتعددة، و مع ذلك لا يؤدي في الحالة الأولى إلى الخصومة و النزاع بينما في الحالة الثانية يشكل مادة لذلك، و السبب يكمن في طبيعة التعاطي مع تلك الاختلافات و استغلالها تارة في النزاع و الخصومة و عدم استغلالها أخرى.
فاختلاف الآراء ليس عاملا من عوامل الفرقة و التشتت بمقدار ما هو أداة تستغل فيها. مثله مثل السلاح الذي يدخر لحالات النزاع و الحرب، فقرار الحرب لا يتولد عن وجود السلاح و انما يتخذ لتوفر عوامل أخرى تؤدي إلى اشعال ناره، فإذا اتخذ قرار الحرب لجأ كل فريق إلى أسلحته ليفتك بالآخر.
و ما نشاهده اليوم عندما تشهر المسائل الخلافية في النزاعات المذهبية فهو من هذا القبيل .
فلابد إذن أن نميز بين عوامل الافتراق و التشتت بين الأدوات التي تستخدم فيه. و بالتالي يفترض أن ينطلق العلاج على اساس القضاء على العوامل و صيانة الأدوات عن الاعداء و عدم السماح لهم باستغلالها.
خطوات عملية في طريق الوحدة:
من خلال الاستعارض المتقدم يمكن أن نخلص إلى وضع برنامج توحيدي يتمثل بخطوات:
أولا: ليس من الضروري أبدا تركيز الجهود التقريبية على أساس تقريب وجهات النظر، و تعليق كل الآمال على النجاح في هذا الجانب، و ان كان تقريب وجهات النظر و التقليل من الخلافات الفكرية في نفسه مطلوبا.
ثانيا: الاسلام واحد و الحقيقة واحدة، و الاختلافات ناتجة من اختلاف النظر و طريقة الفهم، فهي وليدة قصور الفكر البشري، و أثر الحوار الفكري في الأجواء الطبيعية كبير جدا في تكامل ذلك الفكر و اقترابه من الحقيقة، فالمفترض أن يحرص الجميع على توفير الأجوار الملائمة و الظروف الصحية للحوارات الفكرية و تشجيعها و رعايتها.
ثالثا: الخطوات العملية على طريق وحدة المسلمين لا تنتظر نتائج الحوارات الفكرية و لا تتوقف عليها، بل تنطلق على قاعدة المشتركات التي وحدنا الاسلام على أساسها، و هي شهادة أن لا إله الا الله و أن محمدا رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم.
فمن قالها حقن دمه و عصم ماله، و صار له ما للمسلمين و عليه ما على المسلمين، و هذه أهم قاعدة توحيدية.
رابعا: قرائة كل فريق لغيره من الفرقاء لا بد أن تكون بعين الباحث عن الحقيقة و الواقع، لا بعين الباحث عن العيوب و الثغرات، و تقصي العثرات، فان الكثير من الأقلام التي تصدت لدراسة الفرق و المذاهب، لم تتجرد عن عصبياتها و عدائها المسبق للفرق الأخرى، فساهمت تلك الكتابات بتعميق الجراحات و تشويه الصور.
في هذا المجال أحب أن أشير إلى أن القراءة الصحيحة للمذاهب و الفرق هي التى تعتمد على ما كتبه أصحاب تلك المذاهب و علماء تلك الفرق، يجب الرجوع الى أهل الآراء لمعرفة آرائهم، فهم أقدر على عرضها و أدق في تصويرها، و تصوير أدلتها.
أما إذا رجع الباحث في دراسته لفرقة من الفرق و لمذهب من المذاهب إلى مخالفيهم فلن يحصل على نتائج دقيقة و لن يرى تمام الحقيقة و لن يقف على تفصيل معتقداتهم و آرائهم. و المؤسف أن هذا يحدث كثيرا بيننا و البعض منا يبني نظراته تجاه الآخرين على ذلك.
قد تسمع بحادثة بسيطة و شجار مختصر بين اثنين من أصحابك، و تكون في ذهنك صورة من خلال ما سمعت، لكنك ستفاجأ إذا استمعت إلى ذوي العلاقة لمقدار الاختلاف بين الواقع و النقل، هذا مع اتحاد الواسطة فكيف اذإ تعددت، و كيف إذا رافق ذلك سوء ظن و عصبية و ما شابه .
فنحن ندعوا الباحثين إلى التجرد، و التحلي بالإنصاف، و أخذ معلوماتهم من المنابع الصافية و المصادر المباشرة.
و هناك نقاط أخرى تجدر الاشارة إليها، تتعلق بكيفية دراسة فكر الآخرين و التعرف على آرائهم:
الأولى: التفريق بين الرواية و الرأي، فإن وجود رواية في كتب قوم لا يدل أبدا على أنهم يفتنون بمضمونها أو يعتقدون صحتها و يعملون بها، فكثيرا ما نراهم يثبتون النصوص في مصادرهم و يتركون أمر دراستها إلى مجال آخر أو إلى أهل الفن، فربما ناقشوا سندها أو متنها، و ربما كانت معارضة بغيرها، و ربما كانت تخالف الكتاب أو السنة القطعية مما يقتضي طرحها . و النتيجة أنه لا تلازم بين الرواية و الاعتقاد.
الثانية: رأي أحد العلماء لا يمثل أبدا رأي الطائفة أو المذهب، و ان كان منتسبا إليهما . فكثيرا ما ينفرد شخص برأي خاص في مسألة من المسائل أو فرع من الفروع بينما يكون رأي الطائفة على خلافه، فلا يصح تحميل الطائفة ذلك الرأى. و هذا الخطأ قد وقع فيه بعض الباحثين، وجهوا انتقاداتهم للطائفة بناء على ذلك القول الشاذ.
و لمعرفة رأي طائفة معينة في مسألة من المسائل لا بد من ملاحظة ما يجمعون عليه أو ما يكون مشهورا بينهم يذهب إليه أغلب علمائهم و مفكريهم، و لا ينظر إلى الشاذ.
الثالثة: يفترض بالباحث أن يعتمد الأسلوب العلمي بالبحث، و أن يتجنب المغالطات، و الدخول في النزاعات المبنائية، و نقصد بها المسائل الخلافية التي يرجع الخلاف فيها إلى الاختلاف على المبني العلمي المعتمد، فمثلا قد يكون هناك قاعدة أصولية مقبولة عند شخص و غير مقبولة عند آخر، أو رواية تصح بحسب قواعد هذا الفريق و لا تصح على قواعد ذاك الفريق، فلا بد من حصر البحث في القاعدة المختلف فيها و سوق الأدلة لاثبات أو نفي ذلك المبني، دون الدخول في الفروع المرتبة التي ستكون بطبعها تابعة للمباني.
و أخيرا فانه ليس من الضروري أبدا نقل الخلافات إلى دائرة أوسع و الالتزام بما لا يلزم، و ترتيب آثار العداء تجاه من نختلف معهم إذا لم نوفق من خلال للحوار للوصول إلى وفاق في الرأى و اتفاق في النظر.
و بعبارة أخرى لا بد من حصر الخلافات الفكرية في دائرتها و عدم السماح لأعدائنا باستغلالها و الاستفادة منها، و عندئذ لن يكون هناك أي محذور من فتح الحوارات و تشكيل الندوات لتدارس نقاط الخلاف، و لا بد من تناسي الخلافات المذهبية و كتمانها فيما لو ظهر من أعداء الاسلام أي تحرك للعب على وترها.
و من الخطوات العملية في مجال التقريب و لم الشمل إزالة الحاجز النفسي المصطنع الذي وضعه أعداؤنا بين أتباع الفرق و المذاهب المختلفة، و هذا الأمر له أهمية كبرى للوصول إلى الصورة الحقيقية و الرؤية الصحيحة لبعضنا البعض. فان البعد و الجفاء يترك أسوء الأثر على النفوس و يزرع الضغائن و الاحقاد، و بالتالي يمهد الطريق لمثيري الفتن و النزاعات .
فنحن ندعو المجاميع العلمية و الحوزات و المعاهد عند المذاهب الاسلامية كافة أن تنفتح على بعضها، و تضع حدا لهذا الانغلاق على النفس، نحن ندعو علماء المذاهب و الفرق الاسلامية لزيادة حوزاتنا العلمية و معاهدنا و حضور الندوات و المباحثات العلمية، لا نقصد الزيارات الرسمية و الدبلوماسية، و انمانعني الزيارات الاستطلاعية العلمية المفتوحة، و بالمقابل نأمل أن يقوم علماء و مفكروا الشيعة بزيارات مماثلة باتجاه المذاهب الأخرى.
الجامعات و المؤسسات العلمية بامكانها أيضا أن تؤدي دورا فعالا في هذا المجال و ذلك بافتتاح أقسام خاصة للدراسة المذاهب الاسلامية شرط أن يعهد إلى أساتذة كفوئين من كل مذهب اسلامي لتدريس مذهبهم.
لما ذا يضع كل فريق سدا فولاذيا أمام النتاجات الكفرية للفريق الآخر، و لا تدرس إلا بخلفية البحث عن العيوب و الثغرات إذا كنا نريد الحفاظ على نقاوة الفكر و صفائه فلابد من إطلاق عنانه و إعطائه حريته.
لا يفوتنا أن نسجل أسفنا لما يعانيه الكتاب الشيعي في العديد من البلاد الاسلامية من حصار و حظر. فإن البعض يضع الكتاب الشيعي في لائحة الكتب الممنوعة، و يتعامل معها أسوأ مما يتعامل مع كتب الكفر و الضلال.
لما يمنع الملايين من المسلمين المثقفين من الإطلاع على واقع المذاهب الأخرى بينما يباح لهم قراءة المطبوعات المشحونة بالكفر و الانحراف و الفساد الأخلاقي.
لما يسمح للاعلام الغربي المعادي للاسلام بالدخول إلى كل بيت و مكتب و مدرسة من بلادنا الاسلامية، و لا يسمح للاعلام الاسلامي أن يأخذ مكانه.
إنه الواقع الأليم الذي نعيشه في العديد من البلاد.
مطلق الإتحاد أو الاتحاد في دائرة الحق:
لا شك أن الاتحاد عامل قوة، و كل مسلم في أعماقه رغبة شديدة و شوق كبير لرؤية الاسلام يشمخ علوا، و ترف رايته على كل رابية، كل مسلم يحب أن يرى العالم الاسلامي قويا عزيزا منيعا، و الاسلام عندما يدعو للالتزام بالجماعة و اصلاح ذات البين و ينهى عن الفرقة و التشتت يريد بذلك التمحور حول الدين و حول الحق، و إلا فان الاتفاق على كلمة الفكر و الالتزام بالجماعة و ان كانت على باطل مما لا يمكن أن يدعو إليه الدين و لا يحبه الله .
و قد ورد عن رسول الله (ص) أنه قال:
«جماعة أمتي أهل الحق و ان قلوا». (14)
و عنه صلى الله عليه و آله و سلم أيضا:
«إن القليل من المؤمنين كثير». (15)
و ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله:
«الجماعة أهل الحق و إن كانوا قليلا و الفرقة أهل الباطل و ان كانوا كثيرا». (16)
فالكثرة بما هى كثرة ليست غاية في نظر الاسلام و انما المطلوب هو التزام سبيل الله و الاجتماع على هذا السبيل و الاتفاق عليه، لا مجرد الاتفاق و الاجتماع كيفما كان و كيفما اتفق، و على هذا الأساس يمكن أن نفهم مراد الرسول (ص) من الجماعة في الأحاديث المروية عنه في النهي عن مفارقة الجماعة، فإنه ليس المقصود مطلق الجماعة و لو كانوا جماعة الباطل و أعداء الدين،و لذا كان التعبير الوارد فى بعض النصوص «جماعة المسلمين».فالحق هو الملاك، و الاسلام هو الغاية، و الاجتماع عليه يكسبه قوة و منعة و يحقق أهدافه.
الوحدة و التبليغ للمذهب
كل فرد منا يحمل قناعات و يبتني أراء، و يحب أن يعرض هذه القناعات و الآراء على الآخرين إما باعتبار أنها من نتاجات فكره أو لأنها هي الحق و الصواب بنظره، و إذا توسعنا قليلا نجد أن أصحاب المدارس الفكرية كذلك يحبون عرض مدرستهم و دعمها بالأدلة و البراهين و الدفاع عنها، و كذلك الأمر على مستوى المذاهب و الفرق الكبيرة، فقد يتوهم البعض أن التبليغ و الدعوة لمذهب معين ينافي الوحدة و الاجتماع و يؤدي إلى الفرقة و الخلاف.
و الحقيقة أن التبليغ و الدعوة بحد ذاتهما لا يؤديان إلى ذلك ما لم يوافقهما حالة من التعصب، و حالة من الجمود الفكري.
و قد قيل إن: «الصراع الفكري دليل صحة و دليل يقظة ما لم يؤد إلى انشقاق في صفوف الأمة و مواجهة عدائية»، (17) و هذا مما لا يحصل عادة في الأطر الصحيحة لعرض الأفكار و الآراء و في أجواء الحوار الفكري الخالص عن شوائب الحقد و التعصب.
و هل يمكن لأمة أن تبلغ رشدها الفكري إذا أوصدت باب حرية الفكر و سدت منافذ الحوار و جمدت الطاقات المخزونة في العقول البشرية؟
و الفرق كبير بين الاقتناع بالفكرة و تبني الرأي و بين التعصب لهما، بين قبول العقيدة لأن الدليل ساقه إليها و بين التقليد الأعمي، بين الحوار من أجل الوصول إلى الصواب و بين الجدال بهدف إفحام الآخرين و تبكيتهم و اسقاطهم.
و النتيجة أنا لا نرى أن من الشروط العملية للوحدة منع أرباب الفرق و مذاهب من الدعوة و التبليغ، بل ندعو لنبذ العصبية، و التجرد عن النظرة العدائية تجاه بعضنا البعض، ثم ليعرض كل انسان فكره و عقيدته، و ليكن ميزان العقل هو الأساس في قبول ذلك أو رده.
لقد اتبع هذا الاسلوب أكبر العلماء من مختلف المذاهب، لم يحل الاختلاف الفكري دون اجتماعهم و تحاورهم و أخذ بعضهم عن بعض. و إذا كان الاجتهاد قد قاد بعضهم إلى رأي، فانه قد ساق الآخرين إلى رأى آخر، و ما دام الدليل هو المحكم فالأمر في اطاره الصحيح و طريقه السليم، نعم عندما يحاول أحد أن يفرض رأيه فرضا، و يقبل الدليل و البرهان إذا كان يؤيد فكرته و يرفضها إذا لم يكونا كذلك فعندئذ يمكن أن يقال إن هذا النحو من الصراع ـ الذي قد يسمى فكريا و ليس كذلك ـ أول الطريق نحو التشتت و الفرقة. و ليس الاعلان بالرأي و الدعوة إليه هو السبب في ذلك، و انما المشكلة أولئك الذين لا يتحملون الحوار الفكري القائم على القواعد الاستدلالية، و يتأذون ممن لا يقبل أراءهم أو ينقدها.
و كلمة أخيرة:
إن زرع و تنمية روح الإخوة و تقبل الحقيقة و غسل القلوب مرحلة متقدمة رتبة على الحوارات الفكرية، بل هي أرضية لابد منها لانجاحها و تقحيق مآربها، و إلا كانت الحوارات ساحة لاشعال نار النزاعات و تغذية الصراعات.
إن دعاة التفرقة مرجفون ـ حسب تعبير الشيخ شلتوت ـ يتربصون بنا الدوائر و لا يعجبهم أن يروا المسلمين يدا واحدة على أعدائهم، و صفا واحدا في موجهتهم.
إذا كان «إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة و الصوم»، (18) فلأن فيه حفظ الاسلام و قوته و تماسك أهله، و لأجله قال صلى الله عليه و آله و سلم في تتمة الحديث:
«و إن المبيرة الحالقة للدين فساد ذات البين، و لا قوة الا بالله العلي العظيم» (19) .
الهوامش:
1) سورة آل عمران: 103 ـ .105
2) سورة المؤمنون: .52
3) سورة الانفال: .46
4) صحيح مسلم ـ شرح النووي 16 / .140
5) صحيح مسلم ـ شرح النووي 16 / .139
6) كنز العمال للمتقي الهندي 1 / 886 و في معناه بألفاظ متقاربة 1 / 1093 ـ .1045
7) المجلسي: بحار الانوار 27 / .67
8) سورة الحجرات: .13
9) المجلسي: بحار الانوار 90 / .362
10) سورة النحل: .125
11) سورة العنكبوت: .46
12) سورة آل عمران: .64
13) سورة آل عمران: .61
14) المجلسي: بحار الانوار 2 / 265 و 27 / .67
15) المجلسي: بحار الانوار 2 / .266
16) المجلسي: بحار الانوار 2 / .266
17) في سبيل الوحدة الاسلامية: .59
18) المتقي الهندي: كنز العمال 2 / 5487، و المجلسى: بحار الأنوار 76 / 43 عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم.
19) الكليني: الكافي 1 / 51
رسالة التقريب ص 36
تأليف: الأستاذ مصطفى قصير العاملي.