التكرار والقصص في القرآن الكريم
الحمد لله الذي تقدَّس عن الأشباه ذاتُه، وتنزَّه عن سمات الحدوث صفاتُه، ودلت على وجوده وقِدمه مخلوقاتُه، وشهدت بربوبيته وألوهيته مصنوعاتُه، وأقرَّت بالافتقار إليه بريَّاتُه، وأذعنت لعظَمته وحكمتِه مبتدَعاتُه، سبحانه من إلهٍ تحيرت العقولُ في بديع حكمته، وخضعت الألباب لرفيع عظَمتِه، وذلَّت الجبابرة لعظيم عزَّتِه، ودلت على وحدانيته محدَثاتُه، يُعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويوصِل ويقطع، فلا يُسأَل عما يصنع، كما نطقت به آياتُه، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأسوة الحسنة وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن لتكرار بعض الكلمات، وكذلك القصص في القرآن الكريم، فوائدَ كثيرةً، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
بسم الله الرحمن الرحيم
معنى التكرار:
التكرار: هو مصدر كرَّر إذا ردَّد وأعاد؛ (البرهان في علوم القرآن للزركشي جـ 3 صـ 8).
تارةً يكون التكرار مرتين؛ كقوله: ﴿ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴾ [المدثر: 19، 20]،وقوله: ﴿ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ﴾ [القيامة: 34، 35]، وقوله: ﴿ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ﴾ [التكاثر: 6، 7]، وقوله: ﴿ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ﴾ [النبأ: 4، 5].
وقوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 78].
وقوله: ﴿ فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ ﴾ [التوبة: 69].
وفائدته العظمى: التقرير، وقد قيل: الكلام إذا تكرَّر تقرَّر.
وقد أخبر الله سبحانه بالسبب الذي لأجله كرَّر القصص والأخبار في القرآن فقال: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [القصص: 51].
وقال: ﴿ وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ﴾ [طه: 113].
وحقيقته: إعادة اللفظ أو مرادفه لتقرير معنًى؛ خشيةَ تناسي الأول لطول العهد به؛ (البرهان في علوم القرآن للزركشي جـ 3 صـ 10: 9).
فوائد التكرار في القرآن:
يمكن أن نوجز فوئدَ التكرار فيما يلي:
الأول: التأكيد:
اعلم أن التكرير أبلغُ من التأكيد؛ لأنه وقع في تكرار التأسيس، وهو أبلغ من التأكيد؛ فإن التأكيد يقرر إرادة معنى الأول وعدم التجوز؛ فلهذا قال الزمخشري في قوله تعالى: ﴿ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ [التكاثر: 3، 4]: إن الثانية تأسيسٌ لا تأكيدٌ؛ لأنه جعل الثانيةَ أبلغَ في الإنشاء فقال: وفي (ثم) تنبيهٌ على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول.
وكذا قوله: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴾ [الانفطار: 17، 18]، وقوله: ﴿ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴾ [المدثر: 19، 20].
وقوله تعالى: ﴿ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 42]، وقوله: ﴿ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ﴾ [البقرة: 198].
وكقوله تعالى حكايةً عن موسى: ﴿ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ﴾ [طه: 33، 34]، وقوله: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾ [الرعد: 5] كرَّر: ﴿ أُولَئِكَ ﴾ [الرعد: 5].
وكذلك قوله: ﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 5]،وكذا قوله: ﴿ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي ﴾ [القصص: 19] إلى قوله: ﴿ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ﴾ [القصص: 19] كُرِّرت ﴿ أَنْ ﴾ [القصص: 19] في أربع مواضعَ تأكيدًا.
وقوله: ﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الزمر: 11، 12].
الثاني: زيادة التنبيه على ما ينفي التهمةَ؛ ليكمل تلقي الكلام بالقبول، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ ﴾ [غافر: 38، 39]، فإنه كرر فيه النداء لذلك.
الثالث: إذا طال الكلام، وخشي تناسي الأول، أعيد ثانيًا؛ تجديدًا لعهده؛ كقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 119].
وقوله: ﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ﴾ [النحل: 110].
وقوله: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 89]، ثم قال: ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا ﴾ [البقرة: 89]، فهذا تكرارٌ للأول، ألا ترى أن ﴿ لَمَّا ﴾ [البقرة: 89] لا تجيء بالفاء!
ومثله: ﴿ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ ﴾ [آل عمران: 188]، ثم قال: ﴿ فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ ﴾ [آل عمران: 188].
وقوله: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾ [البقرة: 253]، ثم قال: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا ﴾ [البقرة: 253].
ومنه قوله: ﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ [يوسف: 4].
وقوله: ﴿ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ﴾ [المؤمنون: 35]، فقوله: ﴿ أَنَّكُمْ ﴾ [المؤمنون: 35] الثاني بناءٌ على الأول؛ إذكارًا به؛ خشيةَ تناسِيهِ.
وقوله: ﴿ وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ [الروم: 7].
الرابع: في مقام التعظيم والتهويل؛ كقوله تعالى: ﴿ الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ ﴾ [الحاقة: 1، 2]، ﴿ الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ ﴾ [القارعة: 1، 2]، ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1، 2].
وقوله: ﴿ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ ﴾ [الواقعة: 27].
وقوله: ﴿ فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ﴾ [الواقعة: 8، 9].
وقوله: ﴿ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾ [المدثر: 31].
الخامس: في مقام الوعيد والتهديد؛ كقوله تعالى: ﴿ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ [التكاثر: 3، 4]، وذكر "ثم" في المكرر دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغُ من الأول، وفيه تنبيهٌ على تكرر ذلك مرةً بعد أخرى، وإن تعاقبت عليه الأزمنة لا يتطرق إليه تغييرٌ، بل هو مستمر دائمًا.
السادس: التعجُّب؛ كقوله تعالى: ﴿ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴾ [المدثر: 19، 20]، فأعيد تعجبًا من تقديره وإصابته الغرض على حدِّ: قاتَلَه الله ما أشجَعَه!
السابع: لتعدُّد المتعلق؛ كما في قوله تعالى: ﴿ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [الرحمن: 13] فإنها وإن تعددت فكل واحدٍ منها متعلقٌ بما قبله، وإن الله تعالى خاطب بها الثَّقَلينِ من الإنس والجن، وعدَّد عليهم نِعَمَه التي خلقها لهم، فكلما ذكر فصلًا من فصول النِّعم، طلب إقرارَهم، واقتضاهم الشكر عليه، وهي أنواعٌ مختلفةٌ، وصورٌ شتَّى؛ (البرهان في علوم القرآن للزركشي جـ 3 صـ 18: 11).
الإنسان يحب القصة الهادفة:
الحادثة المرتبطة بالأسباب والنتائج يهفو إليها السمع، فإذا تخللتها مواطن العبرة في أخبار الماضين كان حبُّ الاستطلاع لمعرفتها من أقوى العوامل على رسوخ عبرتها في النفس، والموعظة الخطابية تسرد سردًا لا يجمع العقل أطرافها، ولا يعي جميع ما يلقى فيها، ولكنها حين تأخذ صورة من واقع الحياة في أحداثها تتضح أهدافها، ويرتاح المرء لسماعها، ويصغي إليها بشوق ولهفة، ويتأثر بما فيها من عِبَرٍ وعظات، وقد أصبح أدب القصة اليوم فنًّا خاصًّا من فنون اللغة وآدابها، والقصص الصادق يمثِّل هذا الدور في الأسلوب العربي أقوى تمثيل، ويصوِّره في أبلغ صورة: قصص القرآن الكريم؛ (مباحث في علوم القرآن لمناع القطان صـ 316).
أنواع القصص في القرآن:
القصص في القرآن الكريم ثلاثة أنواع:
النوع الأول: قصص الأنبياء، وقد تضمَّن دعوتَهم إلى قومهم، والمعجزات التي أيدهم الله تعالى بها، وموقف المعاندين منهم، ومراحل الدعوة وتطورها، وعاقبة المؤمنين والمكذبين؛ كقصص نوح، وإبراهيم، وموسى، وهارون، وعيسى، ومحمد، وغيرهم من الأنبياء والمرسَلين، عليهم جميعًا أفضل الصلاة والسلام.
النوع الثاني: قصص قُرآني يتعلق بحوادثَ غابرة، وأشخاص متعددين؛ كقصة الذين أخرجوا مِن ديارهم وهم ألوفٌ حذَرَ الموت، وطالوت وجالوت، وابنَيْ آدم، وأهل الكهف، وذي القرنين، وقارون، وأصحاب السَّبْت، ومريم، وأصحاب الأخدود، وأصحاب الفيل، ونحوهم.
النوع الثالث: قصص يتعلق بالحوادث التي وقعت في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كغزوة بدر وأُحُدٍ في سورة آل عمران، وغزوة حنين وتبوكَ في التوبة، وغزوة الأحزاب في سورة الأحزاب، والهجرة، والإسراء، ونحو ذلك؛ (مباحث في علوم القرآن لمناع القطان صـ 317).
فوائد تكرار القصص في القرآن:
لتكرار القصة في القرآن الكريم فوائدُ كثيرة، يمكن أن نوجزها فيما يأتي:
(1) إذا كُرِّرت القصة، زاد الله تعالى فيها شيئًا،ألا ترى أنه ذكر الحية في عصا موسى عليه السلام، وذكرها في موضعٍ آخر ثعبانًا؛ ففائدته أن ليس كل حيةٍ ثعبانًا، وهذه عادة البلغاء: أن يكرِّرَ أحدهم في آخرِ خُطبته أو قصيدته كلمةً لصفةٍ زائدةٍ.
(2) أن الرجل كان يسمع القصة من القرآن، ثم يعود إلى أهله، ثم يهاجر بعده آخرون يحكون عنه ما نزل بعد رحيل الأوَّلين، وكان أكثر من آمن به مهاجريًّا، فلولا تكرُّر القصة لوقعت قصة موسى إلى قومٍ، وقصة عيسى إلى آخرين، وكذلك سائر القصص، فأراد الله سبحانه وتعالى اشتراك الجميع فيها، فيكون فيه إفادة القوم، وزيادة تأكيدٍ وتبصرةٍ لآخرين، وهم الحاضرون.
(3) تسلية الله تعالى لقلب النبي صلى الله عليه وسلم مما اتفق للأنبياء مثلُه مع أممهم؛ قال تعالى: ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ [هود: 120].
(4) أن إبرازَ الكلام الواحد في فنونٍ كثيرةٍ وأساليبَ مختلفةٍ لا يخفَى ما فيه مِن الفصاحة.
(5) أن الدواعيَ لا تتوفر على نقل القصص كتوفُّرِها على نقل الأحكام؛ فلهذا كررت القصص دون الأحكام.
(6) أن الله تعالى أنزل هذا القرآن، وعجَز القوم عن الإتيان بمثل آيةٍ؛ لصحة نبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ثم بيَّن وأوضح الأمر في عجزهم بأن كرر ذكر القصة في مواضعَ؛ إعلامًا بأنهم عاجزون عن الإتيان بمثلِه بأي نَظْمٍ جاؤوا، بأي عبارةٍ عبروا.
(7) أنه لما سخِر العرب بالقرآن قال: ﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ [البقرة: 23]، وقال في موضعٍ آخر: ﴿ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ ﴾ [هود: 13]، فلو ذكر قصة آدم مثلًا في موضعٍ واحدٍ واكتفى بها، لقال العربيُّ بما قال الله تعالى: ﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ [البقرة: 23] ائتونا أنتم بسورةٍ من مثله، فأنزلها سبحانه في تعداد السور؛ دفعًا لحجَّتِهم من كل وجهٍ.
(8) أن القصة الواحدة من هذه القصص كقصة موسى مع فرعون، وإن ظن أنها لا تغاير الأخرى، فقد يوجد في ألفاظها زيادةٌ ونقصانٌ، وتقديمٌ وتأخيرٌ، وتلك حال المعاني الواقعة بحسب تلك الألفاظ، فإن كل واحدةٍ لا بد وأن تخالف نظيرتها من نوع معنًى زائدٍ فيه لا يوقف عليه إلا منها دون غيرها، فكأن الله تعالى فرق ذكر ما دار بينهما وجعله أجزاءً، ثم قسم تلك الأجزاء على تارات التكرار؛ لتوجد متفرقةً فيها، ولو جمعت تلك القصص في موضعٍ واحدٍ لأشبهت ما وجد الأمر عليه من الكتب المتقدمة من انفراد كل قصةٍ منها بموضعٍ، كما وقع في القرآن بالنسبة ليوسف عليه السلام خاصةً، فاجتمعت في هذه الخاصية من نظم القرآن عدةُ معانٍ عجيبةٍ:
منها: أن التكرار فيها مع سائر الألفاظ لم يوقع في اللفظ هُجْنةً، ولا أحدَث مَلَلًا؛ فبايَنَ بذلك كلامَ المخلوقين.
ومنها: أنه ألبَسها زيادةً ونقصانًا، وتقديمًا وتأخيرًا؛ ليخرج بذلك الكلامِ أن تكون ألفاظُه واحدةً بأعيانها، فيكون شيئًا معادًا، فنزَّهه عن ذلك بهذه التغييراتِ.
ومنها: أن المعانيَ التي اشتملت عليها القصة الواحدة من هذه القصص صارت متفرقةً في تارات التكرير، فيجد البليغ - لِما فيها من التغيير - ميلًا إلى سماعها؛ لِما جُبِلت عليه النفوس من حب التنقل في الأشياء المتجددة التي لكل منها حصةٌ من الالتذاذ به مستأنفةٌ.
ومنها: ظهور الأمر العجيب في إخراج صورٍ متباينةٍ في النظم بمعنًى واحدٍ، وقد كان المشركون في عصر النبي صلى الله عليه وسلم يعجَبون من اتساع الأمر في تكرير هذه القصص والأنباء مع تغاير أنواع النظم وبيان وجوه التأليف، فعرَّفهم الله سبحانه أن الأمر بما يتعجبون منه مردودٌ إلى قدرة مَن لا يلحقه نهايةٌ، ولا يقَعُ على كلامه عددٌ؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ﴾ [الكهف: 109]، وكقوله: ﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ﴾ [لقمان: 27]؛ (البرهان في علوم القرآن للزركشي جـ 3 صـ 28: 26).
سؤال هام:
ما الحكمة في عدم تكرُّر قصة يوسف عليه السلام وسوقها مساقًا واحدًا في موضعٍ واحدٍ دون غيرها من القصص؟!
الجواب من عدة وجوهٍ:
الأول: فيها من تشبيب النسوة به وتضمُّن الإخبار عن حال امرأةٍ ونسوةٍ افتتَنَّ بأبدعِ الناس جمالًا وأرفعهم مثالًا؛ فناسب عدم تكرارها؛ لِما فيها من الستر عن ذلك.
الثاني: أنها اختصت بحصول الفرَجِ بعد الشدة بخلاف غيرها من القصص؛ فإن مآلها إلى الوبال؛ كقصة إبليس، وقوم نوحٍ، وقوم هودٍ، وقوم صالحٍ، وغيرهم، فلما اختصت هذه القصة في سائر القصص بذلك، اتفقت الدواعي على نقلها؛ لخروجها عن سَمْتِ القصص.
الثالث: قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني: إنما كرَّر الله قصص الأنبياء وساق قصة يوسف مساقًا واحدًا إشارةً إلى عجز العرب، كأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: إن كان مِن تلقاء نفسي تصديرُه على الفصاحة، فافعَلوا في قصة يوسفَ ما فعلتُ في قصص سائر الأنبياء؛ (البرهان في علوم القرآن للزركشي جـ 3 صـ 30: 29).
أثر القصص القرآني في التربية:
مما لا شكَّ فيه أن القصةَ المحكَمة الدقيقة تطرُقُ المسامع بشغف، وتنفُذُ إلى النفس البشرية بسهولة ويُسْرٍ، وتسترسل مع سياقها المشاعرُ لا تمَلُّ ولا تكِلُّ، ويرتاد العقل عناصرها فيجني من حقولها الأزهار والثمار،والدروس التلقينية والإلقائية تورث الملَل، ولا تستطيع الناشئة أن تتابعها وتستوعب عناصرها إلا بصعوبة وشدة، وإلى أمد قصير؛ ولذا كان الأسلوب القصصي أجدى نفعًا، وأكثر فائدة،والمعهود - حتى في حياة الطفولة - أن يميلَ الطفل إلى سماع الحكاية، ويُصغي إلى رواية القصة، وتَعِي ذاكرتُه ما يروى له، فيحاكيه ويقصُّه،هذه الظاهرة الفطرية النفسية ينبغي للمربِّين أن يستفيدوا منها في مجالات التعليم، لا سيما التهذيب الديني، الذي هو أساس التعليم، وقوام التوجيه فيه.
وفي القصص القرآني تُربة خصبة تساعد المربين على النجاح في مهمتهم، وتمدهم بزاد تهذيبي مِن سيرة النبيين، وأخبار الماضين، وسنَّة الله في حياة المجتمعات، وأحوال الأمم؛ وذلك لأن القصة في القرآن حقيقةٌ لا خيال،ويستطيع المربي أن يصُوغَ القصة القرآنية بالأسلوب الذي يلائم المستوى الفكري للمتعلمين، في كل مرحلة من مراحل التعليم؛ (مباحث في علوم القرآن لمناع القطان صـ 322: 321).
ختامًا، أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى أن يجعلَ هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعَلَه ذخرًا لي عنده يوم القيامة: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، كما أسأله سبحانه أن ينفعَ به طلاب العلم، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله رب العالَمين.
المصدر: شبكة الألوكة