حَراكُ الفِكرِ في القرآن الكريم
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله المعصومين
إنَّ القرآن الكريم قد إنطلقَ في حَراكه المعرفي بخطوات عقلانية ومنطقية تبتني على جذريَّة الفكر في نظام الوجود والحياة .
لتتوسع بإشتقاقاتها الوزانية حكمة وهدفاً على كافة المديات .
فما من دعوة أدّعاها القرآن الكريم تأصيلاً إلاَّ وقرنها بجذرها المتين وهو الفكر أو النظر أو التفكُّر .
ليثير بذلك ذهن المُتلقي ويُحدِث في مخيلته ووعيه تأملاً وتنظراً في الأشياء من حوله
تنظِّراً حسياً كما ورد في قوله تعالى
{أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ }ق6
بإعتبار أنَّ ( النظر إلى ) هو إشارةٌ إلى لحاظ الحسيّات
والتي هي مفتاح من مفاتيح المعرفة البشرية
وتنظِّراً عقلياً
كما في قوله تعالى
{أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ }الأعراف185
لما معلوم من أنَّ النظر إذا إقترن بفي
فهو يشير إلى التفكر وإعمال التأمل في الأمور المعقولة .
وحين يفصح القرآن تعجباً من بني الإنسان في حال رفضهم لدعوة الله تعالى
يقرنُ هذا التعجب بضرورة إعمال الفكر ليتفكّر الإنسان .
قال تعالى
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }محمد24
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }الحج46
وتعقلن الأشياء هو التفكر فيها لإدراك حقيقتها والإعتبار بها.
وواضحٌ أنَّ الفكرَ أو التفكر والذي هو أسمٌ للتفكير هو من خصائص الإنسان حصراً
حتى كان بالفكر مخصوما .
قال تعالى
{ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ }السجدة9
بمعنى أنَّ الله تعالى قد أتم خلق الإنسان وأبدعه وأحسن خلقته
وجعل له نعمة السمع والأبصار يُميَّز بها بين الأصوات والألوان والذوات والأشخاص
وجعل له نعمة العقل ليتفكر بها ويُميَّز بين الحسن والقبيح والحق والباطل
والخير والشر والنافع والضار.
ولو لاحظنا حَراك الفكر أو التفكر أو حتى النظر بمعناه العقلي لا الحسي
لوجدنا أنَّ القرآن الكريم قد أخذه قاعدةً ومُرتكزاً
يجب أن يتقَّعَد أو ترتكز عليه كل تعاطيات الإنسان مع مناشطه كافة
من فلسفة إرتباط الإنسان بالكون وفهمه وترابطه معه وتأثره به وتأثيره فيه .
قال تعالى
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ }الروم8
وفلسفة الطبيعة التي قُدّرَ للإنسان أن يقع تحت أنماطها الفيزيقيه التي حكمتها قوانين الميتافيزيقا .
قال تعالى
{قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ }يونس101
وفلسفة العبادة والتعايش والمعاملة والثقافة والسلوك
قال تعالى
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }الروم21
كما أشار القرآن الكريم إلى ظاهرة العقل والتفكر النقدي والتقيمي
قال تعالى
{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }الأعراف176
ونبه القرآن الكريم إلى التفكر في دعوة المعصوم :عليه السلام:
وعدم رفضها رأساً بل أرشد إلى التفكر خياراً
في القبول أو الرفض .
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ }الأعراف184
وكذلك أرشد إلى أهميّة إعمال التفكر في أخذ القرار والتدبير والتخطيط والخيار والحكم وغيرها كثير .
قال تعالى
{إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ }المدثر18
لنلحظ هذه الآية الشريفة وإن كان مورد نزولها جاء في رصد بعدٍ سلبي تعاطى به منكروا الدعوة الإسلامية في وقت نزولها .
لكنها حكتْ إرصاداً لحَراك الفكر وإن كان في صورة الإنحراف
مما تعطي هذه الاية الشريفة إنطباعاً وتصورا ورفداً ووعياً وإرشادا
بلزوم إعمال الفكر في تحديد القبول أو الرفض وإنشاء الحكم والخيار والحسبان .
بل حكتْ حتى أهميَّة التحوِّط من العدو كونه يُفكِّر ويّقَدِّر
ومن الملفِتْ للنظر والإعتبار أنَّ تنمية الإنسان وتزكيته
هي الآخرى قد أُخِذَ فيها الفكر والتفكر منهجا وسبيلاً مثمرا.
قال تعالى
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }آل عمران191
إذاً على أساس ما تقدّم من بيان لحََراك وجذرية الفكر والتفكر معرفيا .
يثبتُ أنَّ حَراك الفكر في ذهن الإنسان يُمثّل في واقعه وحقيقته
جذراً أصيلاً في مسار تعامل أو تعاطي الإنسان مع كافة الأشياء
علاجاً أو إستنتاجاً أو تخطيطاً أوموقفا
وعلى أساس جذرية الفكر تُقامٌ اسس ومناهج الحياة كلها
عقدياً وشرعيا وأخلاقيا وإجتماعيا وحتى سياسيا
ليتكون في النتيجة في إعمال الفكر وتنشيطه
العلم القار في ذهن الإنسان المُفَكِّر
الذي يجعل صاحبه مؤمنا ومُستبصراً ومباشراً للحقيقة واليقين .
والسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته
مرتضى علي الحلي : النجف الأشرف :
=====================